كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها: تخصيصهم إيّاه في القسم بحالة لا تكون لغيره وهو إدخالهم التاء عليه في قولهم:
تاللّه لا أفعل وقولهم: وأيمن اللّه لأفعلنّ.
فتذكّر بهذه الخواصّ السبع الحكم السباعيّ الذي نبّهت عليه عند الكلام على حروفه، مرتقيا إلى الفرديّة الأولى والتربيع التابع له، ثم إلى التثنية التي لها الأوّليّة والحكم الخماسيّ التالي له والمقترن به، واعتبر التطابق الذي بين الحقائق، وتبعيّة ما ظهر من الجزئيّات لما بطن من أصولها الكلّيّة، ينفتح لك أبواب شتّى من المعارف العزيزة. واللّه المرشد.
اشتقاق لفظ الجلالة:
وأمّا اشتقاقات هذا الاسم الكريم فأحدها مأخوذ من أله الرجل إلى الرجل يأله إلاها: فزع إليه فآلهه، أي أجاره وآمنه.
والاشتقاق الثاني مأخوذ من وله يوله، وأصله ولاه فأبدلت الواو همزة، كما قالوا:
وساد وإساد وشاح وإشاح. والوله عبارة عن المحبّة الشديدة، وكان يجب أن يقال: مألوه كمعبود، لكن خالفوا البناء ليكون اسم علم، فقالوا: إلاه. كما قيل للمحسوب والمكتوب:
حساب وكتاب.
الاشتقاق الآخر مأخوذ من لاه يلوه. إذا احتجب.
والآخر لاه يلوه إذا ارتفع.
والآخر اشتقاقه من ألهت بالمكان إذا أقمت به.
والآخر اشتقاقه من الإلهيّة، وهي القدرة على الاختراع.
والوجه الآخر في اشتقاقه قالوا: الأصل في قولنا: اللّه الهاء التي هي كناية عن الغائب.
وذلك أنّهم أثبتوا موجودا في نظر عقولهم، وأشاروا إليه بحرف الكناية، ثم زيد فيه لام الملك، لما علموا أنّه خالق الأشياء ومالكها، فصار له، ثم زيدت فيه الألف واللام تعظيما، وفخّموه توكيدا لهذا المعنى، فصار بعد هذه التصرّفات على صورة قولنا: اللّه والآخر: أله الرجل يأله، إذا تحيّر في الشيء ولم يهتد إليه والوله ذهاب العقل. والآخر وله الفصيل إذ ولع بأمّه. والمعنى أنّ العباد مولهون ومولعون في التضرّع إلى اللّه في كلّ الأحوال. والآخر اشتقاقه من أله يأله إلاهه، كعبد يعبد عبادة، وقرأ ابن عبّاس رضي الله عنهما {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} أي عبادتك.
وقيل أيضا. أصل هذا الاسم إله ثم أدخلت عليه الألف واللام، فصار الإله، ثم خفّفت الهمزة بأن ألقيت حركتها على اللام الساكنة قبلها، وحذفت فصار اللاه، ثم أجريت الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة، فأدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكّنت حركتها، فقيل اللّه.
فبهذا قد بيّنّا ما يختصّ بهذا الاسم الجامع من الشرح من حيث الذوق ومن حيث البحث النظري، ومن حيث الاصطلاح اللغوي. تطابق معاني الاسم ظاهرا وباطنا فأنت إذا اعتبرت وجوه اشتقاقاته وما فيها من المعاني، وأسقطت ما هو كالمكرّر منها من حيث اندراج بعضها في البعض- اندراجا معنويّا- علمت أيضا صورة المطابقة بين معاني هذا الاسم من حيث ظاهره، وبين الأسرار الباطنة المنسوبة إليه فيما مرّ.
ولولا التطويل لعيّنتها لك، ولكن فيما ذكر غنية للّبيب المتبصّر.
ولمّا لم يصحّ استناد العالم إلى الحقّ من حيث ذاته لما بيّنّا، بل من حيث معقوليّة نسبة كونه إلها، وتعقّل الحقّ من كونه إلها اعتبار زائد على ذاته، وتعلّق العالم بالحقّ والحقّ بالعالم إنّما يصحّ بهذه النسبة، فلا جرم صار مرجع سائر الأسماء والمراتب والنسب إلى هذه النسبة الواحدة الجامعة لسائر ما ذكر فإنّها أصل كلّ حكم واسم ووصف ونعت ونسبة وغير ذلك ممّا يسند إلى الحقّ سبحانه، ويضاف إليه، فافهم واللّه المرشد.
{ربّ} وإذا وضّحنا سرّ الحمد، ومراتبه وأقسامه، وسرّ الاسم اللّه المضاف إليه الحمد في هذه السورة، فلنبيّن سرّ الاسم الربّ التالي له، فنقول: هذا الاسم لا يعقل ولا يرد إلّا مضافا، وله من حيث الاصطلاح اللغوي خمسة أحكام تستلزم خمس صفات.
فأمّا الأحكام فالثبات، والسيادة، والإصلاح، والملك، والتربية لأنّ الربّ هو المصلح، والسيّد، والمالك، والثابت والمربّي.
صلاحه تعالى:
فأمّا سرّ كونه مصلحا فلأنّ الممكنات من حيث هي وبالنظر إليها ليس نسبتها إلى الوجود وقبوله والظهور به بأولى من بقائها في مرتبة إمكانها من حيث نسبة اللاقبول واللاظهور، فترجيح الحقّ جانب إيجادها على بقائها في حجاب إمكانها- مع ثبوت أنّ الخير في الوجود والشرّ في العدم، وكونه سبحانه يزيد العبد إلى نعمة الإيجاد من كونه إيجادا فحسب نعما أخر لا تحصى ولا يقدر أحد على أداء شكر اليسير منها، كالصلاح التامّ ونحوه- دليل على رعاية ما هو الأنفع في حقّ العبد والأولى والأصلح.
حكم السيادة:
وأما السيادة فثابتة للحقّ من حيث افتقار غيره إليه في استفادة الوجود منه وغناه بذاته عن استفادة الوجود من الغير لأنّه عين الوجود ومنبعه، والغنى حقيقة إضافيّة سلبيّة تدلّ على عدم احتياج الغنيّ إلى غيره فيما ثبت له الاستغناء عنه، فقد يكون أمرا واحدا، وقد يكون أكثر من واحد، مع تعذّر ظهور حكمه على الإطلاق، كما بيّنّا في سرّ الحمد وغيره من الحقائق.
وله- أعني الغنى- أربع مراتب: مرتبة ظاهرة محلّ حكمها الأوّل عالم الدنيا، ومادّته متاع الدنيا. ومرتبة باطنة، وهي على قسمين: قسم لا تتعدّى فائدته موطن الدنيا، وهو الغنى النفسي الحاصل للقانعين من أهل النفوس الآبية والمتمكّنين من التصرّف في الموجودات بأسرار الأسماء والحروف والتوجّهات الباطنة، والعلم بالكيمياء والتسخيرات. وقسم لا تتقيد فائدته بموطن دون موطن، وبحال دون حال، كحال الواثقين باللّه والمتوكّلين عليه والمتمكّنين من التصرّف مع تركه إيثارا لما عند اللّه وتأدّبا معه.
وقسم جامع بين سائر الأقسام المذكورة.
ومراتب الفقر في مقابلة هذه المراتب المذكورة، فكلّ نسبة عدميّة تعقل في مقابلة كلّ مرتبة من مراتب الغنى هي مرتبة من مراتب الفقر، والإطلاق محال كما مرّ، والفقر الجامع المقابل للغنى الجامع لا يصحّ إلّا للإنسان الكامل، فافهم.
حكم الثبات:
وأمّا حكم الثبات- وهو الحكم الثالث من الخمسة التي للاسم الربّ- فهو ثبات الحقّ من حيث ذاته، ومن حيث امتيازه عمّا سواه بالأمور الثابتة له بكلّ وجه وعلى كلّ حال، وفي كلّ مرتبة دون مشارك، وقد ذكرتها على سبيل الحصر في مراتب التمييز من قبل، فلا حاجة إلى إعادتها، ومن وقف عليها، علم سرّ ما أشرنا إليه.
حكم الملك:
وأمّا حكم الملك فظاهر في الكون من حيث إحاطة الحقّ به علما ووجودا وقدرة، وكون مشيئة الكون تابعة للمشيئة الإلهيّة كما أخبر وأظهر وعلّم، فهو يفعل أبدا ما يشاء كيف شاء، ومتى شاء، وبما شاء، وفيما شاء.
حكم التربية:
وأمّا حكم التربية فيختصّ بالإمداد الحاصل لكلّ موجود ممكن من الحقّ، ليدوم وجوده ويبقى فإنّ الوجود لمّا لم يكن ذاتيّا له، بل مستفادا، افتقر إلى الإمداد بما به بقاؤه، وإلّا فالحكم العدمي الإمكاني يطلبه في الزمن الثاني من زمان وجوده وهو قابل له، فدوام حكم الترجيح الحاصل بالإبقاء، وشروطه ممّا لا يستغني عنه ممكن في وجوده.
لوازم الأحكام:
وأمّا الصفات الخمس اللازمة للأحكام فهو التلوين المقابل للثبات، والعبوديّة المقابلة للسيادة، والإعدام والإهلاك في مقابلة الإصلاح والإبقاء والإيجاد ونحو ذلك، والمملوكيّة المقابلة لنسبة المالكيّة، وعدم قبول التربية والظهور بحكمها في مقابلة التربية.
وبعض هذا يندرج في البعض فالتلوين مندرج في الثبات لأنّه عبارة عن التغيّر، وحكم التغيّر ثابت لنفس التغيّر والمتغيّر، والمحو ثابت في الإثبات، وكذلك الممحوّ ثابت له أنّه ممحو، وأنّه ممتاز بهذا الحكم عن سواه من حيث ما يغايره، فحكم الثبات شامل كلّ شيء لأنّ كلّ حكم يقتضيه أمر لذاته- كائنا ما كان- فهو ثابت له، وثابت اختصاصه به أو مشاركة غيره له فيه.
وأمّا اندراج العبوديّة في السيادة فهو أنّ العبوديّة عبارة عن نسبة جامعة بين نسبتي الفقر والانفعال والمتضايفان لمّا توقّف معرفة كلّ منهما وظهوره، على الآخر، علم أنّه لا غنى لأحدهما عن الآخر، هذا سرّ الأمر من حيث الحاجة.
وأمّا سرّه من حيث الانفعال فإنّ الذوق الصحيح والكشف التامّ الصريح أفاد أنّه لا يؤثّر مؤثّر حتى يتأثّر، فأوّل ما يظهر حكم الانفعال في الفاعل، ثم يسري منه إلى من يكون محلّا لأثره وظهور فعله.
وأمّا المالكيّة والمملوكيّة فمندرجة في مرتبتي الفعل والانفعال لأنّ روح المالك هو القدرة والتمكّن من التصرف والتصريف، دون قيد وتحجير بحال دون حال، وعلى وجه دون وجه، وفي أمر دون أمر، والسرّ في ذلك ما أسلفناه.
سرّ التربية:
وأمّا التربية فهي حقيقة كلّيّة تتضمّن معظم أسرار التدبير الوجودي والحكم الكوني والربّاني، وهي وإن اندرجت من بعض الوجوه فيما مرّ ذكره، فلها امتياز من وجوه شتّى.
منها أنّ الإبقاء قد يحصل بمنع ما ينافي البقاء عن أن يغلب الشيء الذي يراد بقاؤه ويقهره بحيث يذهب عينه أو يخفى ويضعف حكمه، وقد يكون بإمداد ما يوجب غلبة الضدّ المقتضي للفناء، وعلى كلّ حال فأنا أبيّن سرّ التربية وأدرج فيه جملا من الأسرار الربانيّة والكونيّة المتعلّقة بهذا الباب ممّا يعظم نفعه وتجلّ جدواه، واللّه الهادي، فأقول:
التربية مخصوصة بالأغذية التي يدوم بها الحياة والبقاء، والغذاء عبارة عمّا به قوام الصورة الوجوديّة والحياة القائمة بها، وله ظاهر وباطن، فلمطلق الصورة الوجوديّة الأعيان وأحكامها، وللصورة المتشخّصة من حيث الظاهر المشابه لما منه تركيب الصورة الظاهرة، ومن حيث الباطن ما لا تعرف تلك الحقيقة إلّا به ولا تظهر ذاتها أو حكمها بدونه، وما عدا هذين الأصلين فتبع لهما وفرع عنهما.
ونسبة كلّ صورة كونيّة معيّنة إلى مطلق الصورة الوجوديّة نسبة الأعضاء، ولكلّ واحد منها ارتباط بمرتبة روحانية من مراتب الأرواح، ولكلّ روح استناد إلى حقيقة إلهيّة من الأسماء، وللحقائق نسب مختلفة توجب في الأرواح قوى مختلفة، يظهر سرّ ذلك وأثره في مظاهر الأرواح من الصورة العلويّة وغيرها، بواسطة الحركات والتشكلات والامتزاجات المعنويّة والروحانيّة والصوريّة، الفلكيّة والكوكبيّة وسواها، وبين الجمع تناسب من وجه، وتنافر من وجه آخر.
ومحلّ سلطنة الاسم، الربّ وحكمه في كلّ وقت من ذلك كلّه الغالب ظهورا ومناسبة وقوّة وهكذا الأمر في الصور الإنسانيّة، بمعنى أنّ لكلّ عضو من أعضاء الإنسان قوّة، ولكلّ قوّة ارتباط بحقيقة روحانيّة وأسمائيّة وكونيّة صوريّة مادّية، وكلّ آخذ من الكلّ، معط للكلّ، كلّ فرد لفرد آخر يناسبه، والنسب والرقائق والإضافات تنشأ فيما بين ذلك، ويظهر حكمها، وهكذا الأمر في مطلق الصورة الوجوديّة مع الحقائق الغيبيّة التي هي الصورة المعنوية التي طابقتها هذه الصورة الظاهرة العامّة الكونيّة.
ويمتاز الإنسان من بين سائر الصور الوجوديّة بعدّة أمور، منها أنّ لكلّ ما عداه غذاء خاصّا من حيث مرتبة خاصّة على وجه خاصّ لا يتعدّاه ولا يتأتّى له التغذّي بسواه، والإنسان بجمعيّته وإطلاقه يتغذّى بجميع أنواع الأغذية، هذا له من حيث صورته، وغذاؤه من حيث معناه وباطنه قبوله جميع أحكام الحقائق وآثار الأسماء والنسب، وظهوره بها، وإظهاره كلّها والاتّصاف بجميعها.
واعلم، أنّ الغذاء- على اختلاف ضروبه وأنواعه- مظهر صفة البقاء، وهو من سدنة الاسم القيّوم ولا يتغذّى شيء بمنافيه من الوجه المنافي، والمراد من التغذّي حبّ دوام ظهور الاسم الظاهر وأحكامه.
وسرّ التفصيل في عين الجمع بتجلّي الاسم النوري الذي هو الوجود والتنزّه عنه إشارة إلى عود التجليات عند انسلاخها من ملابس أحكام المتجلّى له، وانتهاء حكمها فيه إلى معدنها الذي هو الغيب الذاتي والمرتبة المشار إليها بقوله: «كنت كنزا مخفيّا لم أعرف» الحديث، ومقام: «كان اللّه ولا شيء معه» واللّه غنيّ عن العالمين ونحو ذلك، وقد سبق في ذلك تنبيهات كافية.